محمد بك التامر
كان محمد بك التامر ـ رحمه الله ـ شخصية فريدة في زمانها. امتلأ بالعزة والكرامة والسطوة والنفوذ في جبل عامل كله ولم ينازعه في ذلك أحد، حتى أعدائه اعترفوا له بذلك قبل أصدقائه. إضافة إلى أنه من الأسرة الوائلية وحفيد علي الصغير فان محمد بك التامر كان متزوجا من السيدة خديجة شقيقة كامل بك الأسعد. ورغم الوجهة السياسية لكامل بك إلا انه كان يقف عند رأي محمد بك التامر تجنبا لأي صدام بينهما. وكان الكثير من اهل الجنوب يرون فيه انه هو الشخصية أو القائد الذي يرجونه بعدما اهتم بكل قضاياهم. كما كان من الأوائل في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وحتى الحكم الذي صدر بإعدامه لم يرهبه أو يجعله يتراجع عن مقاومة الفرنسيين، بل انه واجههم علانية. كما انه اشرف على الجماعات التي كانت تنشط في مقاومة المحتل، وكان واضحا في دعمه الكامل لصادق حمزة وادهم بك خنجر.
ومما يسجله التاريخ اللبناني لمحمد بك التامر في مهابته وعظمته، حتى من أعدائه، ما حدث في القنطرة تحديدا والتي تقع على جبل يشرف على وادي الحجير، الذي يربط بين محافظات بنت جبيل ومرجعيون وصور. في وادي الحجير كانت تعقد اللقاءات بين الزعماء لبحث وتخطيط العمليات ضد المحتل، حيث تساعد طبيعة الوادي بأشجاره الضخمة وطرقاته ومنحنياته على التخفي عن عيون الأعداء.
في القنطرة شاع أن أحد رجالها يمتلك فرسة عربية أصلية يندر تواجد مثلها ليس في الجنوب فقط، بل عند كل ملاك الخيول العربية. هذه الفرسة كانت محط أنظار الجميع، فاستدعى كامل بك (بك الطيبة) صاحب هذه الفرسة وطلبها منه على أن يعطيه ما يطلبه مقابلها. لكن الرجل راح يستعطف كامل بك ويرجوه ان يتركها له، واعدا إياه أن يسرجها ويعدها له إذا ما أراد ركوبها في أية لحظة، وانهمرت دموع الرجل، فرق كامل بك له وتركه يعود بفرسته .
أثناء عودة الرجل بفرسته من دار الطيبة ومروره بوادي الحجير، لمح محمد بك التامر الرجل فوق فرسته، فإذ بها شقراء محنجلة القوائم الأربعة وتعلو جبينها نجمة بيضاء، مرفوعة الرأس والذيل، كبيرة العينين، صغيرة المحافر، ضامرة البطن، قوية البنية، تغازل وتراقص الهواء في سيرها وتصنع من دقات حوافرها على الأرض دقات يطرب لها كل فارس وخيال. فأيقن محمد بك التامر ان هذه هي الفرسة الذائعة الصيت في القنطرة، فصرخ على صاحبها أن يأتيه بها، فأخبره الرجل انه لا يمانع في إعطائها له إلا انه سيقع في مشكلة كبرى مع كامل بك .
أجابه أدهم بك خنجر الذي كان ملازما لخاله محمد بك التامر، وقد شهر سلاحه تجاه الرجل، وسأله: ما يضير المحكوم عليه بالإعدام لو قتل فرسة ؟
وهنا سلم الرجل الفرسة لمحمد بك التامر، الذي لما اعتلى صهوتها، ووضع رجليه في الركاب، شعرت الفرسة ان على ظهرها الفارس المنشود والخيال النادر. فتجاوبت الفرسة معه وامتزجت به وصارت خطواتها ألحانا موسيقية، ورسم الفارس والفرس لوحة فنية ، قلما يصادف المرء مثلها .
بعدما أنهى محمد بك اجتماعه مع الزعماء ووزعهم على أن تسلك كل مجموعة منهم طريقا معينا، سلك هو ومرافقه طريقا، وحينما انتهى من صعود الجبل ، انكشف للفرنسيين القادمين بغية القبض عليه، فهم مرافقه لتغيير المسار، فنهره محمد بك وهدده بمسدسه وأمره أن يتبعه دون أي تردد.
كان محمد بك التامر على قدر من الهيبة والوقار والجاذبية، مرتديا الغترة والعقال شامخ القامة. بدأ محمد بك السير، وشكل هو وفرسه عرضا فنيا راقيا خطف انتباه ونفس العسكر الفرنسي، وكان قائد الفرقة الفرنسية أكثر المتحمسين والمعجبين بمشاهدة ما يقوم به هذا الفارس،على الرغم من تنبيه جنوده له بأن هذا الفارس هو محمد التامر المطلوب القبض عليه .. فأمرهم ألا يقوموا بأية حركة، وبقي يراقب هذا الفارس حتى غاب عن ناظريه، وهو ما يدل على أريحية ومزاجية هذا القائد الفرنسي الذي استحرم ان يعطل هذا العرض أو يشوش عليه .
وبذلك يكون مظهر محمد بك التامر كفارس متميز أنقذه من الفرنسيين مرة أخرى، بعدما لم يستطيعوا القبض عليه في المرة الأولى عندما كان في تولين وقد تعرض داره للقصف الفرنسي حينها.
الصفحة التالية : محمد بك التامر يسبق عصره